كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} أي: لا حجة لهم إلا تقليد آبائهم، الجهلة مثلهم.
{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قال مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} أي: كما فعل هؤلاء المشركون من دفاع الحجة بالتقليد، فعل من قبلهم من أهل الكفر بالله.
قال القاضي: وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن مقلديهم أيضًا لم يكن لهم سند منظور فيه. وتخصيص المترفين، إشعار بأن النعم، وحب البطالة، صرفهم عن النظر إلى التقليد.
{قال} وقرئ قل: {أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قالوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} أي: جاحدون منكرون، وإن كان أهدى، إقناطًا للنذير من أن ينظروا، أو يتفكروا فيه.
{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أي: بعذاب الاستئصال: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي: آخر أمرهم، مما أصبح مثلًا وعبرة.
{وَإِذْ قال إِبْرَاهِيمُ} قال القاضي: أي: اذكر وقت قوله هذا، ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل، أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد، فإنه أشرف آبائهم: {لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ} أي: بريء من عبادتكم أو معبودكم. و: {بَرَاء} بفتح الباء الموحدة كما هو قراءة العامة، مصدر كالطلاق والعتاق، أريد به معنى الوصف مبالغة. فلذا أطلق على الواحد وغيره. وقرئ بضم الباء وهو اسم مفرد صفة مبالغة، كطوال وكرام، بضم الطاء والكاف.
وقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} استثناء منقطع أو متصل، على أن ما يعم أولي الأمر وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، أو إلا بمعنى غير صفة لـ: ما؛ أي: إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني؛ أي: خلقني: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} أي: للدين الحق، واتباع سبيل الرشد. والسين إما للتأكيد، ويؤيده آية الشعراء: {يَهْدِينِ} بدونها. والقصة واحدة، والمضارع في الموضوعين للاستمرار، وإما للتسويف والاستقبال، والمراد هداية زائدة على ما كان له أولًا، فيتغاير ما في الآيتين من الحكاية أو المحكي، بناء على تكرر قصته.
{وَجَعَلَهَا} أي: شهادة التوحيد: {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي: موصي بها، موروثة متداولة محفوظة. كقوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: 132]، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: لكي يرجعوا إلى عبادته، ويلجأوا إلى توحيده في سائر شؤونهم، أو لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحّد منهم.
{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء} يعني أهل مكة: {وَآبَاءهُمْ} أي: من قبلهم بالحياة، فلم أعاجلهم على كفرهم: {حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ} أي: دعوة التوحيد، أو القرآن: {وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} أي: ظاهر الرسالة بالآيات، والحجج التي يحتج بها عليهم في دعوى رسالته.
{وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قالوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} أي: جاحدون، فازدادوا في ضلالهم، لضمهم إلى شركهم، معاندة الحق.
{وَقالوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القرآن عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ} أي: من إحداهما، مكة والطائف، فالتعريف للعهد: {عَظِيمٍ} أي: بالجاه والمال؛ فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم عندهم، قال القاضي: ولم يعلموا أنها رتبة روحانية، تستدعي عظيم النفس، بالتحلّي بالفضائل، والكمالات القدسية، لا التزخرف بالزخارف الدنيوية، وقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} إنكار، فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم فيما لا يتولّاه إلا هو تعالى. والمراد بالرحمة النبوة: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: فجعلنا بعضهم غنيًا وبعضهم فقيرًا: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ} أي: بالغنى: {فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم} يعني الغني: {بَعْضًا} يعني الفقير: {سُخْرِيًّا} أي: مسخرًا في العمل، وما به قوام المعايش، والوصول إلى النافع، لا لكمالٍ في الموسّع عليه، ولا لنقص في المقتّر عليه بل لحاجة التضامّ والتآلف، التي بها ينتظم شملهم. وأما النفحات الربانية، والعلوم اللدنية، فليست مما يستدعي سعة ويسارًا؛ لأنها اختصاص إلهي، وفيض رحماني، يمنّ به على أنفس مستعدّيه، وأرواح قابليه.
والسّخريّ: بالضم منسوب إلى السخرة بوزن غرفة، وهي الاستخدام والقهر على العمل {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} يعني أن النبوّة خير مما يجمعون من الحطام الفاني؛ أي: والعظيم من أعاطيها وحازها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لا من حاز الكثير من الشهوات المحبوبة.
ثم أشار تعالى إلى حقارة الدنيا عنده، بقوله: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: متفقة على الكفر بالله تعالى؛ أي: لولا كراهة ذلك: {لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} أي: لتكثير النعم عليه، مع كفره بالمنعم فيزداد عذابًا: {لِبُيُوتِهِمْ} بدل من: {لِمَن} {سُقُفًا} بفتح السين وسكون القاف، وبضمهما، جمعًا: {مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ} أي: مصاعد من فضة: {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي: يرتقون: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا} أي: من فضة: {وَسُرُرًا} أي: من فضة: {عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ وَزُخْرُفًا} أي: ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفًا، أي: زينة من ذهب وجواهر فوق الفضة، ثم أشار إلى أن لا دلالة في ذلك على فضيلتهم بقوله: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: وما كل هذه الأشياء التي ذكرت، من السقف من الفضة، والمعارج، والأبواب، والسرر من الفضة، الزخرف، إلا متاع يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا: {وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} أي: وزين الدار الآخرة، وبهاؤها عند ربك للمتقين، أي: الذين اتقوا الله فخافوا عقابه، فجدّوا في طاعته وحذروا معاصيه خاصة دون غيرهم. قال المهايمي: يعني لا خصوصية في ذلك المتاع، بحيث يدل عدمه على عدم منصب النبوة، وإنما الذي يدل عدمه على عدم النبوة، التقوى. فالنبوة إنما تكون لمن كمل تقواه، سواء كانت عنده أم لا، وإنما كانت الزينة الدنيوية أحق بالكفار؛ لأنها تثير ظلمة الأهوية المانعة من رؤية الحق، بحيث يصير صاحبها أعشى. انتهى.
تنبيه:
ما قدمناه من أن معنى: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} على تقدير: لولا كراهة ذلك. وإن معنى كونهم أمة واحدة اجتماعهم على أمر واحد وهو الكفر، أي: أن كراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع الكافر بها على الوجه المذكور- هو ما ذكره المفسرون. فورد عليه أنه حين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدي إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام؟ فأجيب بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضًا، لما تؤدي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا. والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين فكانت الحكمة فيما دبر حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء، وغلب الفقر على الغنى، هذا ما قاله الزمخشري.
وعندي أن لا حاجة لتقدير الكراهة، وأن معنى الآية غير ما ذكروه، وذلك أن المعنى: لولا أن يكونوا خلقوا ليكونوا أمة واحدة، للترافد، والتعاون، والتضام، وما به قوام حياتهم كالجسم الواحد، لجعلنا للناس ما ذكر من الزين والحلي لدخوله تحت القدرة الكاملة، إلا أن ذلك مبطل للحكمة ومخرب لنظام الوجود، وإنما عبّر عن الناس بمن يكفر بالرحمن، رعاية للأكثر وهم الكفار؛ فإنهم الذين طبقوا ظهر الأرض، وملأوا وجهها، وحطًّا لقدر الدنيا وتصغيرًا لشأنها، بأن تؤتى لمن هو الأدنى منزلة، والأخس قدرًا.
وخلاصة المعنى: أن خلقهم أمة واحدة مدنيين بالطبع، مانع من بسط الدنيا عليهم جميعهم. وهذا هو معنى لولا المطرد، أن ما بعدها أبدًا مانع من جوابها؛ ولذلك يقولون: حرف امتناع لوجود.
فليس المعنى على ما ذكروه أبدا كما يظهر واضحًا لمن أمعن النظر. وبالجملة، فالآية هذه تتمة لما قبلها، في جواب أولئك الظانين، أن العظمة الدنيوية تستتبع النبوة. فبين تعالى حكمته في تفاوت الخلق في الآية الأولى، وهي التسخير. وفي الثانية حقارة الدنيا عنده، وأنه لولا التسخير لآتاها أحط الخلق وأبعدهم منه، مبالغة في الإعلام بضعتها، وهذا مصداق ما ورد من أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن ما عنده خير وأبقى.
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} أي: يعرض عنه، فلم يخف سطوته، ولم يخش عقابه: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} أي: نجعل له شيطانًا يغويه، ويضله عن السبيل القويم دائمًا، لمقارنته له. قال القاشاني: قرئ: يعشَُ، بضم الشين، وفتحها، والفرق أن عشا يستعمل إذا نظر نظر العَشى لعارض أو متعمدًا، من غير آفة في بصره. وعَشِي إذا إيف بصره. فعلى الأول معناه: ومن كان له استعداد صافٍ وفطرةٍ سليمة لإدراك ذكر الرحمن، أي: القرآن النازل من عنده وفهم معناه. وعلم كونه حقًا، فتعامى عنه لغرض دنيوي وبغي وحسد، أولم يفهمه ولم يعلم حقيقته، لاحتجابه بالغواشي الطبيعية، واشتغاله باللذات، الحسية عنه، أو لاغترازه بدينه وما هو عليه من اعتقاده، ومذهبه الباطل.
{نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} جنيًا فيغويه بالتسويل والتزيين لما انهمك فيه من اللذات، وحرص عليه من الزخارف، أو بالشبه والأباطيل المغوية لما اعتكف عليه بهواه من دينه، أو إنسيًا يغويه، ويشاركه في أمره، ويجانسه في طريقه، ويبعده عن الحق. وعلى الثاني معناه. ومن إيف استعداده في الأصل، وشقي في الأزل بمعنى القلب عن إدراك حقائق الذكر، وقصّر عن فهم معناه: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} من نفسه أو جنسه، يقارنه في ضلالته وغوايته. انتهى.
{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} قال ابن جرير: أي: وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله، عن سبيل الحق، فيزينون لهم الضلالة، ويكرهون لهم الإيمان بالله، والعمل بطاعته {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} أي: يظن هؤلاء المشركون بالله، بتزيين الشياطين لهم ما هم عليه، أنهم على الصواب والهدى.
{حَتَّى إِذَا جَاءنَا} أي: العاشي: {قال} أي: لشيطانه: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} أي بعد المشرق من المغرب. فغلب المشرق على المغرب، ثم ثنى. وقيل المراد مشرقا الصيف والشتاء. والتقدير من المغربين، فاختصر {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} قال القاشاني: أي: حتى إذا حضر عقابنا اللازم لاعتقاده وأعماله، والعذاب المستحق لمذهبه ودينه، تمنى غاية البعد بينه، وبين شيطانه الذي أضله عن الحق، وزين له ما وقع بسببه في العذاب، واستوحش من قرينه واستذامه، لعدم الوصلة الطبيعية، أو انقطاع الأسباب بينهما بفساد الآلات البدنية.
{وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} قال القاشاني: أي: لن ينفعكم التمني وقت حلول العذاب واستحقاق العقاب، إذا ثبت وصح ظلمكم في الدنيا، وتبين عاقبته، وكشف عن حاله؛ لأنكم مشتركون في العذاب لاشتراككم في سببه، أو ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب من شدته وإيلامه؛ أي: كما ينفع الواقعين في أمر صعب، معاونتهم في تحمل أعبائه.
{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم. وأراد أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا هو وحده تعالى. وقد تكرر في التنزيل التعبير عنهم بالصم العمي الضلال؛ لأنه لا أجمع من ذلك لشرح حالهم، ولا أبلغ منه؛ إذ سلبوا استماع حجج الله وهداه، كالأصم، وإبصار آيات الله والاعتبار بها، كالأعمى. وقصدَ السبيل الأمم، كالضال الحائر.
{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} أي: نقبضك قبل أن نظهرك عليهم: {فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} أي: بالعذاب الأخروي.
{أوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ} وهذا كقوله تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77]، وفي تعبيره بالوعد، وهو لا يخلف الميعاد، إشارة إلى أنه هو الواقع. وهكذا كان؛ إذ لم يفلت أحد من صناديدهم، إلا من تحصّن بالإيمان.
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يعني دين الله الذي أمر به وهو الإسلام؛ فإنه كامل الاستقامة من كل وجه. قال الشهاب: هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم وأمر لأمته أو له، بالدوام على التمسك. والفاء في جواب شرط مقدّر. أي: إذا كان أحد هذين واقعًا لا محالة، فاستمسك به.
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} أي: وإن الذي أوحي إليك لشرف لك ولقزمك من قريش؛ لما خصهم به من نزوله بلسانهم. أو المراد بقومه، أتباعه؛ أي: تنويه بقدرك وبقدر أمتك، لما أعطاه لهم بسببه من العلوم، والمزايا، والخصائص، والشرائع الملائمة لسائر الأحوال، والأزمان، وجوز أن يراد بالذكر الموعظة: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} أي: عما عملتم فيه، من ائتماركم بأوامره، وانتهائكم عن نواهيه.
{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} أي: هل حكمنا بعبادة الأوثان؟ وهل جاءت في ملة من مللهم؟ قال القاضي: والمراد به الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد، والدلالة على أنه ليس ببدع ابتدعه، فيكذب ويعادى له. انتهى.
والذين أمر بمسألتهم الرسول صلى الله عليه وسلم، هم مؤمنو أهل الكتابين: التوراة، والإنجيل. فالكلام بتقدير مضاف؛ أي: أممهم المؤمنين، أو يجعل سؤالهم بمنزلة سؤال أنبيائهم؛ لأنهم إنما يخبرونه عن كتب الرسل، فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} أي: المصدقة له: {إِلَى فِرْعَوْنَ} لينهاه عن الاستعباد: {وَمَلَئِهِ} أي: لينهاهم عن التعبّد له: {فَقال إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: فأبان أنه لا يستحق العبادة غيره تعالى، وأن ليس لأحد سواه استعباد، لأنها حق الربوبية المطلقة.
{فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} فلما أتاهم بالحجج على التوحيد والبراءة من الشرك؛ إذا فرعون وقومه يضحكون؛ أي: كما أن قومك، مما جئتهم به من الآيات والعبر، يسخرون. وهذا تسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، عما كان يلقى من مشركي قومه، وإعلام منه له أن قومه من أهل الشرك، لن يعدوا أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم في الكفر بالله وتكذيب رسله، وندب منه نبيّه صلى الله عليه وسلم إلى الاستنان بهم بالصبر عليهم، بسنن أولي العزم من الرسل. وإخبار منه له أن عقبى مردتهم إلى البوار والهلاك. كسنته في المتمردين عليهم قبله، وإظفاره بهم، وإعلائه أمره. كالذي فعل بموسى عليه السلام، وقومه الذين آمنوا به. من إظهارهم على فرعون وملئه. أفاده ابن جرير.
ثم أشار إلى أن موجب الهزء لم يكن إلا لعناد، لا لقصورها، بقوله: {وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أي: السابقة عليها: {وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} أي: الدنيوي كالسنين، مما يلجئ إلى الرجوع، ولا أقل من رجائه: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقالوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي: من أنه لا يعذّب من آمن بك ليكشف عنا العذاب: {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي: بما تزعم أنه الهداية: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي: العهد الذي عاهدوا عليه، ويتمادون في غيهم.
{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قال يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} يعني أنهار النيل: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} أي: ما أنا فيه من النعيم والخير، وما فيه موسى من الفقر: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} أي: ضعيف لا شيء له من الملك، والأموال: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} أي: الكلام، لمخالفة اللغة العبرانية اللغة القبطية: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهّبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} أي: يعينونه ويصدقونه.